1/ ماذا نريد من الرياضيات ومن تدريسها
ماذا نريد من الرياضيات ومن تدريسها في المرحلة الأولى من التعليم الأساسي ؟ أنريد إرساء قدر كاف من المعارف والمهارات لدى المتعلمين ؟ أم تهيئتهم للتفاعل مع البيئة التي يعيشون فيها ؟ أم تنمية شخصيتهم وتطوير الإمكانات التي تقدرهم على الاستدلال والتعليل؟ أم تأهيلهم لمواصلة التعلم ؟ أم كل هذه الأهداف مجتمعة ؟ وحتى إذا ما تحققت كل هذه الأهداف وفق منظور اندماجي ، هل يصح لنا أن نقول إننا بلغنا ما نريد من تدريس الرياضيات ؟ سؤال لا تمكن الإجابة عنه بالإيجاب غلاّ متى توفّقنا إلى الإجابة عن سؤال يتولّد عنه هو: كيف نحبّب الرّياضيات إلى نفوس أطفالنا ؟
2/ رياضياتورياضيات.
إن النظر في تدريس الرّياضيــات يختلف اختلافا جذريا بين الملمح المألوف الذي يقضي بأن تصوغَ لجان الأهداف أيا كانت دقة الصياغة ودرجة الإحكام ومهما بلغ مدى الأهداف وشمولها وطابعها الاندماجي وتُعِدَّ لها ما ترى أو ما اُتُّـفِقَ على أنه لازم للمتعلمين من المعرفة الأداتية والمنهجية ثم تَضَعَ لها مسارات التعليم وطرائق التعلم المناسبة لتحقيقها وبين الملمح الثاني المأمول القاضي بأن تسعى إلى تقريب الرياضيات وتدريسها من نفوس الناشئة أو، بدرجة أقل ،أن يَحْرِصَ القائمون بالتدريس وعليه الحرص كله على أن لا يُــنَفِّروها من الرياضيات ومن تدريسها ، وهو أضعف الإيمان .ثم يَـتَبَنَّى المدرس ويتبنى المعنيون بالتعلم من التلاميذ ما يناسبهم من أهداف ومعارف ومهارات ومسارات تعلمية / تعليمية معروضة في منهج هو الحدُّ الأدنى المشترك بين الجميع . لاختلاف بين الملمحين ليس في صياغة هذه الأهداف أو تلك أو اعتماد هذه المقاربة أو تلك أو انتهاج هذا المسار أو ذاك .فهذا ليس بذي أهمية كبرى الاختلاف بين الملمحين في الجوهر أي أنَّه هيكلي ومنهجي. الاختلاف في أن تعتبر الرياضيات مادةً تُدَرَّسُ أو أن تعتبرها غَيْرَ ذلك ، وذلك في المرحلة الأولى من التعليم الأساسي على الأقل حتى لا ينزعج الباحثون في تعلُّمِيَّة الرياضيات الذين لهم فضائل لا تنكر في تطورها .
3/ الرياضيات في مدرستنا
فإذا اعتبرت الرياضيات مادةً فمعنى ذلك أن لها ما لبقية المواد من المضامين المرتبة والمبوبة التي يغلب عليها الحساب والأرقام والقياس والتوقيت المحدَّد والموزَّع على مدار الأسبوع والسنة ولها ما ليس لغيرها من المعايير الدقيقة والغارقة في الدقة والضاربة في التدقيق منها ما يتصل بالمعارف والمهارات ومنها ما يتصل بالمسارات المفضية إلى الحل ولها ما ليس لغيرها من الضوارب هي الأرفع والأقوى وهي المحددة للنجاح والفشل الدَّالين وغير الدَّالين ومن مواضيع الاختبارات المغلقة والمنغلقة على نفسها والتوقيت الأطول والموقع المتميِّز والمدروس في روزنامة الامتحانات توقيا لما قد يصيب الممتحن من دوافع الإحباط وأثره على مجرى الاختبار إذا ما تقدم موضع الرياضيات وفشل صاحبها في الأداء .وهو ما يعطي للرياضيات هالة ومهابة .ولها من الكتب والمراجع المدرسية القانونية والموازية ذات التمارين والمسائل العديدة والمتعددة التي يغلب على معظمها اللون الباهت والقاتم والعناوين الجادة التي لا تخرج أكثرها عن السجل المدرسي أو السجل الإشهادي مثل : "الرياضيات" أو "سبيل النجاح الأوحد" أو "الطريق الوحيدة إلى الارتقاء " وهو وضع شائع بين الكثير من المجتمعات وفي فرنسا على سبيل المثال كتاب في الرياضيات لتلاميذ المرحلة الأولى من التعليم الأساسي بعنوان "الهدف هو الحساب ".وعلى خلاف ذلك فإن سلسلة من الكتب الرياضية صادرة في أمريكا منذ سنوات تحمل عناوين طريفة ومنهاكتاب في القيس هذا عنوانه Metric can be fun
4/ والرياضيات في نظر العلماء
أما إذا لم تعتبر الرياضيات مادة فماذا تراها تكون ؟ لعل في نظر الباحثين في تعلُّمية المواد و الرّياضيين إليها ما يسمح بأن تجد لها تعريفا وموقعا ومجالا ولغة . Alain Connes يرى في الرياضيات اكتشافا وخلقا:
" يصح أن نقارن الرياضيَّ أثناء عمله بالمستكشف في سعيه إلى اكتشاف العالم " و يضيف فيقول:" في بحثه عن الحقيقة الرياضية ، يبتكر الرياضي أدوات تفكيره "كما يرى أن تملك مفاهيمها متوقِّف إلى حدٍّ بعيد على ميول صاحبها واهتماماته . فهو يؤكد أن " هناك من المجالات الرياضية ما لا أفهمه على الرغم من بساطتها لا لشيء سوى أنها لا تتصل بالمواضيع التي أبحث فيها ".
أماLaurent Schwartzفيرى في البحث في مفاهيمها مسارات غير خطية. إذ يقول واصفا عمله :" البحث ينمو وفق نسق يقضي بإقصاء العوائق واحدة بعد الأخرى .فالفكرة تأتينا فجأة . فنبحث ونتقدم ونصل إلى نتيجة نسجلها ونحتفظ بها دون أن ننشرها ثم نمر إلى أمر آخر .ويحدث أن نقتنع بأن في نتيجة تحققت ما يدفعنا إلى مزيد التعمق فنتقدم قليلا ونكتشف أن للمسألة أهمية ... وعلى الباحث أن يقبل الفترات التي يجف فيها تفكيره ساعة أو يوما أو حتى مدى الحياة .والواقع أن الفترات التي يجف فيها الباحث تُعَد أكثر من الفترات التي يَعْثُر فيها على شيء ذي بال ".
ومن العلماء الرياضيين من يعتبر الرياضيات تواصلا. ويقول Jean Dieudonné في هذا الصدد : " أغلب الرياضيين يشعرون بالإحباط إذا لم تتوفر لهم فرص التواصل المنتظم مع زملائهم سعيا إلى الفهم والإفهام . فمجال عملهم المتميز بدرجة عالية من التجريد يقتضي التخاطب مع مختصين من أمثالهم " .
ومنهم من يرى أن للرياضيات أكثر من طريقة في الاستدلال وأنها غير معصومة من الأخطاء وأنها نشاط ذو طابع شخصي على الرغم من التجريد الذي تتميز به.وفي هذا يقولRoland Charnay : " غير الرياضيين من الناس يعتقدون أن هناك طريقة ثابتة لاكتشاف القواعد الجديدة .وأن التقدم في البحث الرياضي يتم بتراكم النتائج ودون أخطاء كأنما الإنتاج في مجال الرياضيات عمل استنباطي لا دخل فيه للمرء أو لأحاسيسه أو طابعه الشخصي المميز" ويؤكد Henri Poincaréهذا التوجه فيقول :" نحن نستدل بالمنطق لكننا نبتكر بالحدس ".
كما أن منهم من يعتبر حل المشكلات جوهر الرياضيات بوصفها تحديات للمرء وللمعرفة على حد سواء . وفي هذا المعنى يقول Alain Bouvier :" هل يصح الحديث عن مسائل غاب عنها التحدي : تحد نحو الذات و/أو تحد نحو المعرفة ؟ " ويضرب العالم الرياضي المشهور Daniel Gorenstein مثالا لذلك فهو يروي كيف أمضى في بحثه عن مفهوم رياضي خمس ساعات في اليوم وكامل أيام الأسبوع وطوال اثنين وخمسين أسبوعا في السنة وذلك منذ سنة 1959 إلى سنة 1977دون انقطاع . ويعلِّل هذا الوقت الطويل الذي استغرقه البحث برفع تحد وَجَّهَهُ إلى نفسه إذ يقول : " أريد أن أحل هذا الإشكال لأنني أريد أن أحله " ومن الرياضيين من يرى في الرياضيات نشاطا يقتضي متسعا من الوقت . كما أن إحراز النتائج قد يأتي صدفة وبعد جهد ولأي . و يفسرون ضرورة توفّر هذا المتسع من الوقت بدوافع شخصية كقول LaurentSchwartz متحدثا عن نفسه دون حرج : " الحقيقة أن لي تفكيرا بطيئا " . أما الطابع العفوي وغير المتوقع للنتائج فهو مألوف لدى العلماء والرياضيين . من ذلك أن هذا الأخير يروي كيف أمضى عشر سنوات يبحث عن مفهوم فلم يفلح وذات يوم وهو منهمك في عمل لا علاقة له بموضوع بحثه أدرك أنه يحرز إجابات عن كل الأسئلة التي طرحها على نفسه منذ عشر سنوات .و يعقب على ذلك بقوله : " في هذا الوقت بالذات أصبح العمل ممتعا والنتائج تتساقط كالثمار الناضجة " هكذا الرياضيات في عيون أصحابها ممن رسخت أقدامهم في العلم : مكانة بين العلوم ومعرفة لا استغناء عنها لكنها اكتشاف وخلق ومسار غير خطي وغير نمطي وفترات من جفاف الفكر قد تطول فيتوقف عن الإنتاج ثم يعود ؛ ونسق في التفكير بطيء لدى بعضهم فلا يرون فيه حرجا ولا يقلل من قيمتهم العلمية ومفاهيم مستعصية على الرغم من بساطتها إذا لم تكن مرتبطة باهتماماتهم وميولهم .كما أن لعلماء الرياضيات فترات من الإلهام يعيشونها مثلما يعيشها الشعراء والفنانون وإن كان اختصاصهم من أشد المجالات دقة وموضوعية .
5/ الرياضيات كما أراها و كما ينبغي أن تكون لدى المتعلمين
إذا كان الأمر بالنسبة إلى علماء الرياضيات على ما ذكرنا مما جاء على لسانهم فإن المتعلمين أولى أن يعيشوها اكتشافا وخلقا وبحثا وتحسسا تجريبيا وإخبارا وتبليغا ولغة رياضية تنمو وتتطور تدريجيا نحو الدقة ومساراتِ حلٍّ تُبنى وتُوَظَّفُ فيها المعرفة الرياضية والمهاراتُ المنهجية المستوجبة والمكتسبة لتُجَرَّبَ وتُقَيَّمَ وتُعَدَّلَ ثم يُعادُ بِنَاؤُها حتى بلوغ الحل النهائي أو الظرفي، الحل الكلي أو الجزئي أو اللا حل. فيصبح الخطأ في الأداة المعرفية و/أو المسارات و/أو المهارات المنهجية وارد والمآزق فيها واردة .لكن السعي إلى تصحيح المسار وإصلاح الخطأ وتجاوز المآزق متاح للجميع أثناء الدرس أو بعده اليوم أو غدا أو بعد شهر أوبعد سنة وربما أكثر دون أن ينجر عن الخطأ أو الوقوع في المآزق المعرفية والمنهجية تبعات وويلات ودون أن ينعت هذا بعدم الفهم أو ذاك ببلادة الذهن أو ثالث بالإهمال أو رابع بالقصور أو خامس بالتقصير.المهم أن لا مكان للإحباط ولا مجال للفشل أيا كانت الدوافع والتبريرات المؤسساتية ( حتمية إنهاء المناهج في موعدها وطابع الاختبارات الإشهادي الذي ينبغي أن يفضي بالقائمين عليه إلى أحد الأمرين : الإقرار بالارتقاء أو الرسوب ) أوالبيداغوجية ( ضبط الأهداف وتخطيط العمل ومراحل الإنجاز الخطية وفق تسلسل زمني يحسب بالدقائق وعدد الحصص وفق هذا المنظور أو ذاك:درس فتطبيق فتقييم أو درس فتقييم فتطبيق أو درس يتضمن التطبيق والتقييم ) أوالتعلمية ( الممثلة في صعوبات النقل البيداغوجي، والعوائق الابستيمولوجية الخاصة ببعض المفاهيم : من ذلك على سبيل المثال الجدل الذي لازال قائما في برمجة المجموعات ومكوناتها منذ بدايات التدريس من التعليم الأساسي؛وهو ما دفع Yves Chevallard إلى القول بما يسميه " مبدأ المراقبة الابستيمولوجية )"
6/ أي مناخ تربوي نريد ؟
لنبدأ فنسأل : هل المناخ التربوي الراهن يسمح بأن لا نـنفر التلاميذ من الرياضيات وهو أدنى ما ينبغي أن تحققه المدرسة ؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست باليسر الذي يتبادر إلى الذهن.فمن الدلائل ما يجعل الإجابة تكون بالنفي.ومن القرائن ما يحمل على الاعتقاد بأن الأمل في التطوير متاح.وليست الأهمية في تقديم إجابة قد لا تحظى بالإجماع الكلي أو الجزئي بل الأهمية في النظر إلى كل ما من شأنه أن يوفِّر، لتدريس الرياضيات ،المناخَ التربوي الملائمَ لجعل المتعلمين لا يَنْـفُرون من الرياضيات دون طرح معطيات الواقع المعقَّد طرحا مجتزئا يُحَمِّلُ المدرِّسَ والتدريسَ أنواعا من القصور أو يُلْقي على الآخرين مسؤولية نُفُورِ المتعلمين من هذه المادة الحيوية .والأهم من كل ذلك أن نبصِّر أنفسنا بمدى مسؤولية التعليم في صياغة الغد القريب والبعيد وأن نَعِيَ أن مستقبل تعليم الرياضيات إنما هو في وضع أولويات جديدة ومتجددة من أجل تعلُّم المستقبل في ما يعرف اليوم بمجتمع المعلومات والمعرفة المتغيرة المتحوِّلة وذات النسق المتسارع.